الخميس، 10 نوفمبر 2011

عبد الله بن سوار وإلحاح الذباب - الحيوان - الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب

عبد الله بن سوار وإلحاح الذباب - الحيوان - الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب

كان لنا بالبصرة قاض يقال له عبد الله بن سوّار، لم ير النّاس حاكما قطّ ولازمّيتا ولاركينا، ولاوقورا حليما، ضبط من نفسه وملك من حركته مثل الذي ضبط وملك. كان يصلّي الغداة في منزله، وهو قريب الدّار من مسجده، فيأتي مجلسه فيحتبي ولا يتّكئ، فلايزال منتصبا ولايتحرّك له عضو، ولايلتفت، ولايحلّ حبوته، ولايحوّل رجلا عن رجل، ولايعتمد على أحد شقّيه، حتّى كأنّه بناء مبنيّ، أو صخرة منصوبة. فلا يزال كذلك، حتّى يقوم إلى صلاة الظهر ثمّ يعود إلى مجلسه فلايزال كذلك حتى يقوم إلى العصر، ثمّ يرجع لمجلسه، فلايزال كذلك حتى يقوم لصلاة المغرب، ثمّ ربما عاد إلى محلّه، بل كثيرا ماكان يكون ذلك إذا بقي عليه من قراءة العهود والشّروط والوثائق، ثمّ يصلّي العشاء الأخيرة وينصرف.فالحق يقال: لم يقم في طول تلك المدّة والولاية مرّة واحدة إلى الوضوء، ولااحتاج إليه، ولاشرب ماء ولاغيره من الشّراب. كذلك كان شأنه في طوال الأيام وفي قصارها، وفي صيفها وفي شتائها. وكان مع ذلك لايحرّك يده، ولايشير برأسه.وليس إلّا أن يتكلم ثمّ يوجز، ويبلغ بالكلام اليسير المعاني الكثيرة. فبينا هو كذلك ذات يوم وأصحابه حواليه، وفي السّماطين بين يديه، إذ سقط على أنفه ذباب فأطال المكث، ثمّ تحوّل إلى مؤق عينه، فرام الصّبر في سقوطه على المؤق، وعلى عضّه ونفاذ خرطومه كما رام من الصبر على سقوطه على أنفه من غير أن يحرّك أرنبته، أو يغضّن وجهه، أو يذبّ بإصبعه. فلمّا طال ذلك عليه من الذباب وشغله وأوجعه وأحرقه، وقصد إلى مكان لايحتمل التّغافل، أطبق جفنه الأعلى على جفنه الأسفل فلم ينهض، فدعاه ذلك إلى أن والى بين الإطباق والفتح، فتنحّى ريثما سكن جفنه، ثمّ عاد إلى مؤقه بأشدّ من مرّته الأولى فغمس خرطومه في مكان كان قد أوهاه قبل ذلك، فكان احتماله له أضعف، وعجزه عن الصّبر في الثانية أقوى، فحرّك أجفانه وزاد في شدّة الحركة وفي فتح العين، وفي تتابع الفتح والإطباق، فتنحّى عنه بقدر ما سكنت حركته ثمّ عاد إلى موضعه، فمازال يلحّ عليه حتى استفرغ صبره وبلغ مجهوده. فلم يجد بدّا من أن يذبّ عن عينيه بيده، ففعل، وعيون القوم إليه ترمقه، وكأنّهم لايرونه، فتنحّى عنه بقدر ما ردّ يده وسكنت حركته ثمّ عاد إلى موضعه، ثمّ ألجأه إلى أن ذبّ عن وجهه بطرف كمه، ثم ألجأه إلى أن تابع بين ذلك، وعلم أنّ فعله كلّه بعين من حضره من أمنائه وجلسائه. فلمّا نظروا إليه قال: أشهد أنّ الذّباب ألحّ من الخنفساء، وأزهى من الغراب! وأستغفر الله! فماأكثر من أعجبته نفسه فأراد الله عزّ وجلّ أن يعرّفه من ضعفه ماكان عنه مستورا! وقد علمت أني عند الناس من أزمت الناس، فقد غلبني وفضحني أضعف خلقه! ثمّ تلا قوله تعالى: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ وكان بيّن اللّسان، قليل فضول الكلام، وكان مهيبا في أصحابه، وكان أحد من لم يُطْعَن عليه في نفسه، ولا في تعريض أصحابه للمنالة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق